arablog.org

زمن المفهوم المجرد: من سلطة الثابت إلى محنة المتحول

هل تشعر أنّك حيّ .. أنّك هنا في أرضك وبين أهلك .. هل أنت حرّ وهل تشعر حقّا أنك في وطنك … ؟
أسئلة كثيرة ربّما طرحها البعض وربّما يتجاهلها البعض الآخر ولكن تبقى ثنائيات الموت -النفي والسجن – الغربة حاضرة في أذهان البعض وفي حيواتهم رغم التجاهل ورغم الخوف من مقارعة هذا المسكوت عنه واللامفكر فيه .. سنحاول في نص هذا المقال التطرّق إلى تداعيات هذه الثنائيات
من خلال ما يعيشه البعض منّا .

قبل الوصول إلى لحظة الموت أو النفي أو السجن و الغربة كان أحد الأفراد أو المجموعات قد تقيأت ثقافة السائد والمألوف وزهدت فيها فبعد التلقين والحفظ والحرص على المحافظة على الثقافة الأصلية والأصيلة وصل الفرد إلى تثوير عقله على النمط الفكري الذي دأب على التفكير به .. والتفكير خارج المنظومة لا داخلها وهو من علامات الرفض أو الهدم لأسس شكلت فيما مضى أول لبنات عقله .

من داخل الثقافة الواحدة خاصة في المجتمعات العربية والإسلامية تنشأ ثقافات مزاحمة للثقافة الواحدة وتفرض نفسها بقوّة رغم محاولة النظام السياسي التستر على الثقافات الأخرى والتي تبدو كأنّها محاولة إستعمارية لوطن يلفظ بعض أفراده ومجموعاته ثقافته الرسمية ، يحاول النظام السياسي العربي تخويف مواطنيه من ثقافة الأقليات العرقية أو الفكرية وكأنّها محاولة لهدم إستقرار الدولة ونيل من الديني حتى وإن قدّم النظام العربي نفسه نظاما مدنيا بل وعلمانيا إلا أنّه في حقيقة الأمر نظام ديني لا يختلف كثيرا عن تجارب الإسلام السياسي .. نظام سني يضطهد الشيعة والمسحيين واليهود والبهائيين والأكراد والأمازيغ والملحدين واللادينين وغيرهم من الأقليات أو المجموعات الأخرى هو نظام يحاول التستر من خلال الدين حتى وإن قدّم نفسه ديمقراطيا إلا أنّها “ديمقراطية الحلال” التي تجعله يحارب أعداء الدين حتى ولو كانوا من أبناء الوطن الواحد لا يختلف الديكتاتور العربي عن الحزب الإسلامي إنهم في نفس السياق يقوّضون النفس المختلف وبنفس العقيدة يواجهون أعدائهم .. لا فرق بينهما .

تعيش بعض المجموعات في ثقافة لفظت بعد التلقين في ثقافة يعتبرها البعض مغلقة وغامضة زئبقية تهويمية لم يستطع أي فرد من مجموعة “الموت النفي السجن الغربة ” التأقلم أو التماهي مع ثقافة المجموعة أي مع المشترك العام ليبتدع كل فرد منهم ثقافة خاصة به تلبي طموحاته في العيش والتحرر .. ربّما يشترك الجميع في لغة واحدة آداة التخاطب بين أبناء المجتمع الواحد ولكن من داخل اللغة نفسها يصنع الفرد موته أو منفاه وسجنه وغربته رغم أنها من المفروض أن تكون وسيلة توحيد وتجميع لا وسيلة تفريق بين الأفراد .. لنطرح السؤال الواحد : تونسي يتكلم مع تونسي نفس اللغة ورغم ذلك لا يتواصلان ترى هل تحمل اللغة شيفرات معقدة لا يفكها كليهما أو أن الأمر يتجاوز اللغة؟

أظن أن الأمر يرتبط أساسا بالنظام السياسي وبدرجة المواطنة التي يعيشها الفرد داخل مجتمعه .. ترى هل هو فرد حرّ تكفل ثقافته ولغته رغبته الكلية في التحرر من محاذير يعتبرها المجتمع تابوهات لا يمكن المس بها أو مقارعتها حتى ولو كان تحت مسميات الحرية و تثوير البنى العقلية … فقط سنشير إلى أن المجتمعات العربية لم تمنح المرأة درجة الأهلية كإصطحاب محرم أثناء السفر فما بالك حتى تصبح مواطنا وحتى وإن أصبحت فهي أقل قيمة من المواطن الذكر ..

ترى هل تحس الأقليات العربية الفكرية منها والعرقية بأنها إبنة ذلك المجتمع لحما ودما وثقافة والأهم ثقافة أو أنها تبتدع من داخل الثقافة نفسها خلاصا تنشده حتى ولو كان نسف الثقافة الأم وتعويضها بأخرى تلبي حاجة هذه المجموعات أو الأفراد في التواصل .

بعد ثلاث سنوات مما سمي بالربيع العربي رصد في المجتمعات العربية ظهورعلني وصريح للثقافة الأصولية التي كانت تتستر في زمن الديكتاتوريات العربية ولاتملك الجرأة على الإظهار طالما أنها تعيش بين الحين والآخر بعض مظاهر إحيائها في مناسبات دينية أو حتى ثقافية “كالقيروان عاصمة إسلامية سنة 2009 ” ألم تكن الأصولية حاضرة بأمر من السلطة وغائبة بأمر منها ؟

مارست هذه الثقافة تأصيلا مستبدا على طريقة التحديث المستبد الذي بدأ فيه بعض الحكام العرب بعد إنهاء الإستعمار رغم رداءة البنى العقلية الإجتماعية التي عاشت إستقلالا شكليا لم ينل باطنها يبدو إلى اليوم أيضا .. فلم ينجح التحديث المستبد معها كما لم ينجح التأصيل المستبد معه اليوم ليس لأنها بلغت درجة عالية من الوعي بل لأنها تعيش إنفصالا بين أفكارها وممارستها وهو في حقيقة الأمر يترجم إنفصامية مجتمع حداثي – تقليدي .. تقدمي – رجعي .

تلعب الثقافة الأصولية دورا هاما في إخضاع الخطاب الإعلامي أو الخطاب السياسي والثقافي لصالحها وبمنتوجات تروق للجميع ” إسلامي حداثي تنويري” وغيرها من الصفات التي تجعل حضورها بشكل طبيعي لا يثير الريبة مما يجعلها تعيد الحفر في الذهنية العربية المنفصمة بين الحداثة والأصالة وبين الإسلام والديمقراطية فقط سأسأل : أليست الثقافة الأصولية في حدّ ذاتها تعيش ثنائية الغربة والسجن طالما أنها إغتربت في خطاب ليس لها وسجنت في فكرة لم تكن يوما تؤمن بها أليس هذا إنفصاما اخر تعيشه الثقافة الرسمية إلى جانب الثقافات غير الرسمية ؟ ..

نفس هذه الثقافة الأصولية التي تقدّم نفسها منفتحة وديمقراطية ولا خوف من تجربة تخلط الدين بالسياسة طالما أن الديمقراطية شعارها هي نفسها المغلقة التي تحجر على الفرد التفكير فيها خارج النواهي والتحريم وخارج التصديق بقدسية الدين ونزاهته وهو ما يعتبر سلبا للفرد في حرية المعتقد .. هذه الثقافة التي تكفر كأرهاب معنوي وتقتل كإرهاب مادي .. هل يمكن لثقافة مغلقة كلما حاول أحدهم فتحها ترتق نفسها من الداخل وتنفيه خارجها .. ثنائية الموت والنفي السجن والغربة هي أحد المظاهر التي نعيشها حاليا حتى وإن كابرنا .. أو كذبنا .. زورنا حتى ولو تبادلنا رسائل الإطمئنان .. إننا كاذبون .. ومخادعون والموت يلفظنا والمنفى يستقبلنا والسجن يطبق علينا والغربة نتنفسها .

 

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *