arablog.org

التونسيات.. لا جدران مع الفضاء العام

عرف عن المرأة التونسية دخولها إلى المقابر بجانب الرجال في موكب الدفن، الذي عادة ما يكون ذكوريًا، استجابة للثقافة الدينية التي لم تحرم في نص صريح تشييع النساء للأموات، بل كانت جائزة في إطار شروط معينة، كأن تتأخر المرأة للستر، وأن يكون سيرهن وراء الرجال حتى لا يقع الاحتكاك بهم وتحدث الفتنة.

منذ اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، انقلبت الصورة النمطية عن مواكب الدفن، وأصبحت المرأة التونسية حاضرة بكثافة، سافرة أو محجبة تمشي إلى جانب الرجال، في مواكب تشييع رموز البلاد ومناضليها إلى مثواهم الأخير.

منذ أسابيع قليلة عادت الصورة الجديدة عن حضور النساء في مواكب الدفن مع رحيل الشاعر محمد الصغيّر أولاد أحمد، الذي طغى فيه حضور النساء اعترافًا منهن بنضاله ودفاعه عن المرأة التونسية، لا سيّما أنه صاحب القصيدة الشهيرة “نساء بلادي نساء ونصف”، ووصل الأمر أن تؤبنه امرأة في سابقة أولى من نوعها، وهي صديقته ورفيقته الأستاذة حياة حمدي الوسلاتي، وتقوم بعد دفنه بردم التراب وهي تمسك بالرفش فوق قبره، في إشارة رمزية أنّ المرأة التونسية قد تخطت كلّ عراقيل ومعوقات مساواتها بالرجل، وتخليها عن المحاذير الجمعية التي فصلت المرأة عن الإطار العام، كما حضرت النساء، في مناسبة أليمة أخرى، هي رحيل المناضل اليساري أحمد بن إبراهيم.

المتأمل في صورة اليوم يعيدنا إلى صراع ثلاثينيات القرن الماضي، الذي خاضه المفكر والمناضل الطاهر الحداد صاحب كتاب “امرأتنا في الشريعة والمجتمع” ضدّ رجعية شيوخ الزيتونة الذين كفروه واتهموه بالفجور، بعد دعوته الصريحة إلى تعليم النساء، وخروجهن إلى العمل إلى جانب الرجال، لتنصف المرأة التونسية بشكل أو بآخر مفكرًا لم ينل حظه في حياته، ومات منبوذًا ووحيدًا، وتعيده إلى الأذهان على أنّه أوّل المحدثين والداعين إلى تحرير المرأة التونسية، بعد أن هضم حقه مرتين، مرة حينما كُفر من شيوخ الزيتونة، ومرّة أخرى حينما استحوذ الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة على كلّ الألقاب المرتبطة بتحرير المرأة التونسية.

تحرير المرأة التونسية، وإن كان إيجابيًا مقارنة بما تعيشه شقيقاتها في المنطقة، لم يكن وليد الصدفة، حتى وإن لم يصل إلى درجة التحرير الكامل، لما تعيشه المرأة التونسية من غبن وتسلط في بعض النصوص القانونية. لم يكن وضع المرأة التونسية اليوم نتاج صدفة أو هبة حكومية، بل كان نتاج عقود من النضال في تحرير العقلية التونسية، سواء كان في تجارب فكرية ومدنية ولدت في عهد الاستعمار، أو في محاولات الدولة الوطنية التي استلهمت من مشروع الطاهر الحدّاد مبادئ المساواة مع الرجل.
بعد عقود طويلة لم تنته محاولات الأصولية وشيوخها عن محاصرة المرأة، ومحاولة ضبطها لسلطة الرجل بسلطة النصّ الديني، آخرها الحديث عن مبادرة المساواة في الإرث، مبادرة لم تأخذ حظها كثيرًا في الأوساط الشعبية، وانحصرت تمامًا في أوساط النخب الحداثية والديمقراطية، وتنكرت لها أحزاب تحسب على هذه الأوساط، ليصل الأمر بمؤسسة الإفتاء أن تتدخل في هذا الموضوع والتي كان عملها رمزي في غالب الأحيان قبل أن تدخل غمار السياسة في مناسبات قليلة ماضية.
إذ أعلن مفتي الجمهورية الشيخ عثمان بطيخ في تصريح واضح لا لبس فيه رفضه الكامل لهذا المشروع بقوله أنّ الآية القرآنية واضحة، ولا مجال للاجتهاد لأنّ المسألة محسومة، رغم أنّ تونس مرتبطة باتفاقية سيداو وقد رفعت تحفظاتها بشأن مواد وفصول متعلقة بصلب هذه الاتفاقية ومنها المساواة في الإرث.

femmess

تصريح مفتي الجمهورية يحيلنا إلى سؤال حارق: هل أنّ تونس دولة تخطت سلطة المؤسسة الدينية نحو ترسيخ دولة المواطنة والمؤسسات؟ أم أنّ الديني ما زال مرتبطًا بالسياسي ويلعب دورًا حاسمًا؟ تصريح لم يجرؤ عليه حزب النهضة ذو المرجعية الدينية، حتى لا يتهم بالرجعية بعد أن نجح في ترسيخ صورة جديدة عنه كحركة تونسية معاصرة، لا تقطع مع حقوق الإنسان ولا ترفضها.

جدل هذه الأيّام يعيدنا إلى الصراع القديم منذ ثلاثينيات القرن الماضي بين مشروعين: مشروع حداثي يقطع بالكامل مع ما يعيق تحرر المرأة، ويؤسس لتجربة تونسية فريدة من نوعها، ومشروع ما زال يجذب إلى الوراء للمحافظة عن سلطة الدين الذي لا يقطع مع هوية تونس، حتى وإن كرست تفوق الرجال على النساء.
التونسيات-لا-جدران-مع-الفضاء-العام/خولة-الفرشيشي/قول
كتبت خولة الفرشيشي
هذا المقال نشر بموقع الترا صوت

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *